الخميس، 10 ديسمبر 2009

خيانة




الآن تدرك أنك قد كبرت، لا بد أن شيئا قد تغير، أو أن شيئا من بين تلك الأشياء التي كنت دائم التغني بها لم يكن حقيقياً. هل يكذب الأطفال في مشاعرهم؟ إذن لماذا لم تعد تحس بذلك الشعور؟! أتساءل: هل بإمكانك النظر إلى المرآة ثانية؟




تجلس، بينكَ وبينه هذا الفراغ الذي يتغلغل فيه صوت محمد عبد الوهاب، عيناه ساهمتان، وفمه مزدان بابتسامة شاحبة لا تكاد ترى، تتابع تلفت عينيه لكنه لا يعيرك أيما انتباه، وجهك مليء بالغضب، ولا ترى إلا ما تريد، تحاول التخلص من شروده، فتصرخ بحزم "لن أنتقل إلى البيت الجديد إلا بغرفة نوم جديدة". ينساك قليلا، ثم يتنهد ويقول " ياه، مر وقت طويل قبل أن أستمع إلى هذه الأغنية كما كنت أفعل، كل شيء كان أجمل، كنا خمسة، نتقاسم رغيفا واحدا على الغداء ونشعر بالرضا، ونقتسم غرفة واحدة للنوم ونغفو بعمق. كانت الحياة قاسية لكنها لم تكن تمنعنا من الفرح." أمك التي دخلت لتوها أوقفته عن الكلام، قالت مخاطبة إياك "إن كنت تنوي شراء غرفة نوم جديدة فابنة جارتنا تريد غرفتك القديمة، حدثتني طويلا عنها، قالت أنها تحلم بها، تخطط لطلاء الجدران، ومنذ أيام تحاول تخيل ما ستكون عليه غرفتها الجديدة." يضحك الأب باستهزاء " أعرف هذا الشعور، أعرفه جيدا، كنا مثلها لا نملك شيئا سوى الأحلام، نحلم ونحلم ونحلم..."




ما بكَ رقت عيناك فجأة؟! ولماذا تذكرت الآن تلك الأيام ؟ أتذكر؟ كنت لا تنام قبل أن تبكي، وتدعو الله أن تكون أول شخص يموت في عائلتك، لم تكن قادرا على تخيل الحياة من دونهما. إذن ما الذي تغير الآن لتفكر في تلك الثروة التي بالإمكان الحصول عليها لو أنهما ماتا ؟! لقد فعلت، منذ قليل فكرت في موتهما، لو أن حادث سير يغيبهما، لو أن تلك الثروة تصبح ملك يمينك، لو أنك قادر على التصرف كما تشاء. كيف تتغير الأشياء بهذا الشكل، من أمنية للموت قبلهما، إلى التفكير في التخلص منها. تغادر المكان بصمت وعيناك مليئتان بالدموع، تواجهك المرآة فتشيح وجهك خجلا منها، تخطو ببطء وتقول في نفسك " الخيانة ليست جرما مشهودا، بل فكرة".

وداع


لم نكن صديقين إلا قليلا

ولم نلتق إلا في أواخر الليالي الكئيبة

حيث يجلس الغرباء على طاولات الشوق

يشربون كي يتناسوا حنينهم إلى شيء ما


في المقهى المواجه للمحطة جلسنا

وضحكنا على فتاة تودع صديقها وتبكي

ثم نظرنا إلى أعين بعضنا وضحكنا مرة أخرى خجلا

من دمع غزا عينينا على حين غرة

وتساءلت َ عن سبب الدموع وأجبتك :

في بلادي مع كل شهيد جديد يتذكر الآخرون موتاهم فيبكون


لم نكن صديقين إلا قليلا

ولم نلتق إلا في كؤوس حنيننا إلى وطن

كلما ضاق بنا المنفى اتسع هو فينا


في المقهى المواجه للمحطة جلسنا

ومر صمت ثم كأس ثم صمت ثم كأس

ثم سألتك : ألن تعود

وتنهدت َ ثم قلت : في المنفى يتسع المعنى يصبح الوطن أكبر من بطاقة شخصية

أتعلم

أنا لا أحب هذا المكان أنا لا أحبه

لكنني هنا عرفت أن ذاك العجوز الذي تركته خلفي هو أبي

وأن تلك التي ما زالت تسائل الطير عني هي أمي

أنا لا أحب هذا المكان لكنني هنا التقيت بوطني

لكنني هنا أحببت وطني


لم نكن صديقين إلا قليلا قليلا

لكن كان لا بد من دمعة واحدة

دمعة واحدة تكفي

دمعة واحدة للبلاد التي ارتسمت في عيوننا


فوداعا