الجمعة، 1 يناير 2010

مأتم


توفي قبل يومين رجل كان يسكن حيّنا مع عائلته، وذهبنا لتقديم التعازي، كنا أربعة رجال، وكان المأتم يقام في قاعة كبيرة يبدو واضحا أنها كانت مخزنا يضع فيه أصحابها أشياءهم القديمة أو تلك التي لا يستعملونها في الوقت الحاضر .. بعد برهة من المسير كنا على مشارف القاعة المأتم، ما إن رآنا من كان بداخلها حتى وقف بضعة رجال لاستقبالنا، كانوا أبناء الميت وأخوته، تقدمنا منهم مصافحين مواسين قائلين " عظم الله أجركم " فجاء الرد شاحبا كأحزانهم أو كما اصطنعوا من حزن " شكر الله سعيكم " ثم جلسوا وواصلنا نحن السير باحثين عن مجلس لنا ...

كان المكان يغص بالكراسي التي شغل معظمها أناس جلسوا على شكل جماعات صغيرة ليتبادلوا أطراف الحديث. ألقينا السلام على الموجودين ثم تركت من جئت وإياهم واخترت كرسيا كان في إحدى الزوايا ليتسنى لي مراقبة الجميع دون جهد. للوهلة الأولى أذهلني المشهد الذي كان . الكل يتحدث ويبتسم وكأنهم ليسوا في مأتم، جاءوا ليقدموا التعازي في رجل ميت فإذا بهم تأخذهم مشاغل الحياة وتنسيهم ما جاءوا لأجله ...

في حضرة الموت كان الحديث دائرا عن الحياة وهمومها وعن ما أنجز من أعمال هذا اليوم .. كانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها مأتما .. كنت أظنه قبل ذلك صمت وحزن فإذا به صخب وضحك وكلام لا ينتهي ...

أيقظني من ذهولي رجل دخل لتوه، اقترب من أهل الميت وعانقهم جميعا، توقف عند آخر رجل فيهم وبعد أن عانقه ربت على كتفه ثم قال : "يا حسرتي عليه، لقد مات شابا" صمت قليلا ثم واصل بصوت هو أقرب للعويل "كان مثل أخي لم نكن نفارق بعضنا البتة..." ثم تركه وجاء يجلس بالقرب مني، وقبل أن يجلس رفع يده وقال بصوت مرتفع "أسعد الله مساءكم" فتوالت أيدي الجالسين ترتفع محيية، شاكرة إياه على ما تمنى لهم من السعادة هذا المساء ..

كان هناك شاب قصير القامة نحيل الوجه يقدم القهوة للحاضرين، صرخ هذا الرجل الذي لم أكن قد رأيته قبل هذا اليوم على الشاب وطلب منه أن يأتي ويقدم له القهوة، وحدها "القهوة السادة" كانت تذكرني أنني في مأتم، وحدها كانت تدل على وجود مأتم في هذا المكان ... اقترب الشاب منه مبتسما لتصرفه وقدم له فنجانا ..فأعاده له طالبا منه أن يملأه ففعل .. شرب فنجان القهوة على عجل، بنهم من لم يشرب القهوة منذ زمن .. أعاد الفنجان للشاب ثم ترحم على الميت بصوته المرتفع والذي اعتدنا عليه مذ دخل .. ثم صمت ...

لا أدري أي نوع من الرجال هو هذا الرجل، لقد كاد يجهش بالبكاء وهو يعانق أبناء الميت وأخوته وها هو الآن يتمنى لنا مساء سعيدا.. يشرب القهوة .. ويبتسم ... لقد أيقظني من ذهولي ليضعني أمام ذهول أكبر .. أعجب كيف لهؤلاء الجالسين أن يستحضروا سعادتهم داخل مأتم ؟! أمن المفترض أن يكون هناك سعادة في مأتم ؟ ألم يعد للموت سطوة على قلوب البشر ؟ ....

انصرفت بنظري عن هذا الرجل الغريب الأطوار، و تركت لعيني حرية التجوال في المكان، انطلقت عيناي من حيث دخلت القاعة، من المكان الذي كان يجلس فيه أبناء الميت وأخوته .. كانوا تارة يتأملون الجالسين وتارة أخرى يتهامسون فيما بينهم وأخرى يخفضون رؤوسهم مفكرين في أشياء لا علم لي بها، ربما كانوا يفكرون بالميت وربما كانوا يفكرون بهؤلاء الجالسين على كراسي الحزن ليقدموا التعازي، وربما كانوا يفكرون بأشياء أخرى . نظر أحدهم إلى اثنين كانا يخوضان نقاشا حادا ارتفع صوتهما جراءه بعض الشيء فابتسم لما شاهده ابتسامة خائفة من أن يلحظها أحد، كان المبتسم أحد أبناء الميت ولقد شغله هذا الموقف عن أبيه فابتسم.

تركت أهل الميت وانتقلت بعيني إلى وسط القاعة حيث تحلق سبعة رجال حول شيخ طاعن في السن له لحية بيضاء كثة ويلبس ثوبا أبيض فوقه عباءة بنية ويمسك في يده عصا، وكان يتحدث إليهم بصوت مرتفع وصلني بوضوح تام، كان يحدثهم عن الصلاة وعن إثم تاركها فتوقعت أن يكون إمام مسجد أو داعية ما ... وفي مكان آخر من القاعة كان يجلس رجلان مقابلين لبعضهما وكانا قريبين مني، سأل أحدهما الآخر إن كان قد ذهب اليوم للعمل أم لا ، فأجابه بأن صلاحية تصريحه قد انتهت وعلى الرغم من ذلك فقد حاول الذهاب إلا أن الجنود الإسرائيليين قد شددوا التفتيش على الحواجز مما حال دون وصوله إلى مكان عمله ...


كان المكان نابضا بالحركة ، أناس يدخلون وآخرون يخرجون ليفرغوا مكانا للقادمين الجدد .. وكأن الناس اتخذوا المأتم مكانا للالتقاء ببعضهم فما إن يجلسوا حتى يشرعوا بالحديث عن أمورهم الخاصة ، كأنهم جاءوا فقط ليخبروا الميت أن الحياة بعده ستستمر ...

دخل ثلاثة رجال وجلسوا في مكان ما من القاعة ثم أشار أحدهم بيده إلى أحد إخوة الميت فقام الأخير وجلس بجانبه وغرقا في حديث أسفر في نهايته عن ابتسامة عريضة ارتسمت على وجه كل منهما ...

حملتني الذاكرة إلى عجوز توفي قبل سنوات، كان أول شيء قام به أولاده بعد دفنه أن تخلصوا من أشيائه الخاصة ، تصدقوا بثيابه ، باعوا سريره ، رموا بعض أشيائه ، وأغلقوا غرفته فصارت مسكنا للأشباح .. تلك الغرفة التي من المؤكد أنها كانت في يوم من الأيام مليئة بأصواتهم فها هم يغلقونها بعد وفاته كي لا يرتطموا بذكراه إن هم دخلوها ...

كم سيء هو النسيان ، لسنا سوى عابري طريق على هذه الأرض ، نسير على رمل وبعد مرورنا تأتي الأمواج لتمحو خطى أقدامنا ...

قلت في نفسي : (( الكل سيخوض هذه التجربة ، جميعنا سوف نموت وجميعنا سوف ننسى كأننا لم نكن موجودين يوما أو كأن أحدا لم ينتبه لغيابنا ... )) ، كأبله صمت للحظة دون التفكير بشيء ثم واصلت مخاطبا نفسي
(( يلزمك بعض الغياب كي تعي عبثية وجودك هنا على هذه الأرض .. )).

***

الصمت هو اللغة الشرعية الوحيدة للحزن، وما البكاء إلا طريقا مختصرا للنسيان ، جميع أقارب الميت ذرفوا الدموع عندما علموا بموته ولكنهم ذرفوا معها ذاكرتهم فما إن فرغوا من البكاء حتى فرغوا من أحزانهم .. وحده من كانت دموعه ترتد إلى داخله فتترك حزنا عميقا خلفها ، وحده كان صامتا .. وحده كان حزينا .. كان يجلس في زاوية مقابلة لي .. هو الابن الأصغر للميت ، شاب صغير لم يجاوز العشرين .. وحده من شعر بفقدان شيء ، فقد كان أبوه بالنسبة له كل عالمه، فبعد أن توفيت أمه قبل أعوام وبعد أن تزوج آخر أخوته لم يكن لكل منهما غير أخره ليستعين به على الوحدة وليستعيض به عن غياب من غابوا .. ليس مجرد أب هو ما فقد هذا الشاب .. لقد فقد جزءا منه .. فمن سيملأ هذا الغياب بعد والده ...؟!

وحيدا كان يجلس في زاوية مقابلة لي ، عيناه ساهمتان غارقتان في شيء ما .. لا شك بأن الذكرى كانت قد رحلت بهما إلى مكان وزمان آخرين .. زمن كان فيه أبوه جزءا من هذا العالم ... وكمن ينتبه إلى الجالسين للمرة الأولى ، راح ينظر إليهم بذهول ، باحتقار كأنه يود لو يطردهم جميعا ... راودتني فكرة القيام والجلوس بجانبه لعلي أستطيع أن آخذ عنه بعض حزنه لكني عدلت عنها .. قلت في نفسي : ( ليس من السهل أن يحمل أحد عنك أحزانك .. )


نظرت إلى ساعتي ، كانت تشير إلى الثامنة مساء ، وكان قد مر على وجودي هنا ما يقارب الساعة شربت خلالها القهوة ثلاث مرات .. في العادة يمكث الناس هنا مدة قصيرة ، إلا أنني كنت مأخوذا بفظاعة النسيان فنسيت نفسي جالسا هنا على مقعد الدهشة .. نظرت حولي فإذا بالذين جئت معهم قد غادروا المكان ، ربما حاولوا إعلامي برحيلهم دون أن أنتبه لهم .. وقفت ، ألقيت السلام مرة أخرى ، ثم غادرت المكان ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق